الأحد، 29 أبريل 2018

مبدأ التعاون والاستلزام الحواري لجرايس

ما المقصود بمبدأ التعاون والاستلزام الحواري؟

- بول جرايس H.P.Grice فيلسوف من فلاسفة أكسفورد المتخصصين في دراسة اللغة الطبيعية natural language ألقى محاضراته في جامعة هارفارد عام 1967م، وقد طبعت أجزاء مختصرة من هذه المحاضرات عام 1975م في بحث له بعنوان:"المنطق والحوارLogic and Conversation"، وفيه بلور جرايس "مبدأ التعاون"، ويقصد به ذلك المبدأ الذي يرتكز عليه المرسِل للتعبير عن قصده، مع ضمانة قدرة المرسَل إليه على تأويله وفهمه، وصاغه على النحو التالي:"ليكن إسهامك في الحوار بالقدر الذي يتطلبه سياق الحوار، وبما يتوافق مع الغرض المتعارف عليه، أو الاتجاه الذي يجري فيه ذلك الحوار".

- إن من المفترض عادة أن تكون الجمل التي نستعملها جملاً تامة الفائدة، ومناسبة للمقام، وقد صار هذا جزءًا مما بات يعرف بمبدأ التعاون cooperative principle اللازم للمحادثة، وحين يبدو الكلام غير تام الفائدة، أو غير مناسب للمقام، فإن السامع أو القارئ يفترض حينئذ أن عليه أن يستنبط ما يردُّ به هذا الكلام إلى حال "الإفادة" و"المناسبة".
وقد تفرّع عن هذا المبدأ عدد من المبادئ الرئيسة، وهي:

1- مبدأ الكم The Maxim of Quantity (قاعدتا كم الخبر): 
أ- لتكن إفادتك المخاطب على قدر حاجته. 
ب- لا تجعل إفادتك تتعدى القدر المطلوب
وينص هذا المبدأ على أن عملية التخاطب يجب أن تكون مفيدة، ويجب أن يكون الخطاب دالا على المطلوب، أي لا يفيد أكثر مما ينبغي، ويوافق هذا المبدأ، مبدأ الاقتصاد اللغوي الذي أثبته اللغويون المعاصرون وهو يقول: إن الإنسان لا يبذل من الجهود العلاجية أو الذهنية في إعمال آلة الخطاب إلا بقدر ما يستطيع إفادة المخاطَب، وبعبارة أخرى: فإن هم المتكلم أن يبلغ أكبر عدد ممكن من الفوائد بأقل عدد ممكن من الجهود. 
وقد يتجاوز عن الكمية عند الاستخفاف Flouting بها، أو استغلالها Expltation، للتوصيل إلى استدلالات متتابعة إلى المقتضى الذي يقتضي إبلاغه، والتجاوز عن مبدأ الكم يحصل عندما يأتي النص بشكل غير مباشر عن طريق الكناية، والتلويح، والرمز، والاستعارة.

2- مبدأ الكيف The Maxim of Quality (قاعدتا كيف الخبر): 
أ- لا تقل ما تعلم كذبه. 
ب- لا تقل ما ليست لك عليه بينة.
وينص على أن تتصف مساهمة المتخاطبين بالصحة، ويهتم فيه بجانب الصدق طرحًا من المرسِل وإجابة من المستقبل؛ فالأول في مقام يفرض عليه الإيمان بصدق قوله ليقابله صدق الإجابة، ويكون الطرفان على نحو من التفاهم والانسجام. 
ويتجاوز مبدأ الكيف إما للتهكم Satireأو للمزاح.

3- مبدأ المناسبة أو الترابط The Maxim of Relevance (قاعدة علاقة الخبر بمقتضى الحال): 
- ليناسب مقالك مقامك.
ويؤكد هذا المبدأ أن يكون الكلام مناسبًا لموضوع الحوار وملائمًا له، أي: يكون الكلام ذا دلالات مباشرة وصريحة، وغرضه أن تحقق أجزاء الخطاب الواحد توافقًا دلاليًّا يحملها على عدم التعارض؛ فلا يكون الخطاب خطابًا، إذا كان أوله لا يشبه آخره، تنافرًا وتعارضًا. 
وقد يتجاوز عنه في الكلام غير المباشر بغرض التأدب مثلا.

4- مبدأ النوع أو الطريقة The Maxim of Manner (قواعد جهة الخبر):
أ- لتحترز من الالتباس. 
ب- لتحترز من الإجمال.
ج- لتتكلم بإيجاز. 
د- لترتب كلامك.
وإذا انتهك المتكلم مبدأ من مبادئ الحوار أدرك المخاطَب اليقظ ذلك، وسعى إلى الوصول إلى هدف المتكلم من هذا الانتهاك، كما أن انتهاك مبادئ الحوار لا يقتصر على التعبير الحقيقي بل يشمل المجازي أيضًا، وهو متحقق أيضًا في كل مفارقة irony يراد بها عكس ما يقال، أو غير ما يتوقع.

- يقول طه عبد الرحمن :"لقد أريد بهذه القواعد التخاطبية أن تنزل منزلة الضوابط التي تضمن لكل مخاطبة إفادة تبلغ الغاية في الوضوح، بحيث تكون المعاني التي يتناقلها المتكلم والمخاطب معاني صريحة وحقيقية؛ إلا أن المتخاطبين قد يخالفان بعض هذه القواعد، ولو أنهما يدومان على حفظ مبدأ التعاون؛ فإذا وقعت هذه المخالفة، فإن الإفادة في المخاطبة تنتقل من ظاهرها الصريح والحقيقي إلى وجه غير صريح وغير حقيقي، فتكون المعاني المتناقلة بين المتخاطبين معاني ضمنية ومجازية، كما إذا قال القائل:"لقد اشتد الحر بنا في هذا المكان"، وهو يقصد أن يبادر أحد المستمعين إلى فتح النافذة؛ فهذا القول في ظاهره خبر يخل بقاعدة الكم، إذ يخبرنا بما نحن على علم به، لكنه في باطنه طلب نهتدي إليه بافتراض أن القائل يأخذ بمبدأ التعاون".

++ الاستلزام الحواري:
لقد كان مفهوم جرايس للاستلزام الحواري conversational implicature أهم إسهاماته في تطور التداولية، وتكمن أهميته في أنه يشكل نقطة تحول واضحة عن أنواع الاستدلالات الأخرى المسموحة في دراسة المنطق المبنية على شروط الحقيقة، والاستلزام الحواري لا ينجم إلا إذا تم خرق أحد المبادئ الفرعية الأربعة السابق ذكرها مع الاحتفاظ بأصل مبدأ التعاون، وهنالك بعض الشروط التي يجب أن تتوفر في جملة ما حتى تستلزم معنى مقامي مغاير لمعناها الحرفي وهي:
- يتوجب على المشاركين في الحديث أن يحترموا مبدأ التعاون.
- يجب أن يفترض المتكلم أن المستمع يدرك المعنى المستلزم.
- يجب أن يكون المستمع قادرًا على الاستنتاج انطلاقًا من الافتراض القائم على مسلمة الملاءمة.
- على المشاركين في الحديث أن يحترموا السياق اللغوي وغير اللغوي في الخطاب.
- يجب على المتكلم أن يحترم المعنى العرفي وأن يعرف العبارات الإحالية.

++ أمثلة على الاستلزام الحواري:
في كل مثال من الأمثلة التالية تم تجاوز أحد المبادئ التي ذكرها جرايس، مما نتج عنه استلزام حواريّ يفهمه المخاطب اعتمادًا على بقاء مبدأ التعاون بين المتكلم والمستمع.

+ انتهاك مبدأ الكمية :
المثال الأول: في وقت التسجيل، كان كل أعضاء فريق البث من الإذاعة البريطانية.
الاستلزام الحواري: واحد أو أكثر منهم ليس عضوًا في فريق البث البريطاني الآن.
المثال الثاني: في حوار يجري بين الأم وولدها: 
- تقول الأم: هل اغتسلت ووضعت ثيابك في الغسالة؟ 
- يجيب الابن: اغتسلت. 
في هذا الحوار انتهاك لمبدأ الكم؛ لأن الأم سألته عن أمرين فأجاب عن واحد وسكت عن الثاني، أي أن إجابته أقل من المطلوب، ويستلزم هذا أن تفهم الأم أنه لم يضع ثيابه في الغسالة، وأنه لم يرد أن يجيب بنعم حتى لا تشمل الإجابة شيئًا لم يقم به، ولم يرد أن يواجهها بتقاعسه عن وضع ثيابه في الغسالة.

+ انتهاك مبدأ الكيفية :
المثال الأول: حوار بين صحفي وناطق رسمي:
- الصحفي: هل لعبت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أي دور في مغادرة دوفاليار؟ هل شجعته فعلًا، على سبيل المثال على المغادرة؟
- الناطق الرسمي: لن أحاول إبعادك عن ذلك الاستنتاج.
الاستلزام الحواري: لقد لعبت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية دورًا ما، على الرغم من أن الناطق الرسمي ليس في موقع يسمح له بالالتزام بمثل هذه النتيجة.
المثال الثاني: في حوار بين التلميذ والأستاذ:
- التلميذ: طهران في تركيا، أليس هذا صحيحًا يا أستاذ؟
- الأستاذ: طبعًا، ولندن في أمريكا!
في هذا الحوار انتهك الأستاذ مبدأ الكيف الذي يقتضي ألا يقول إلا ما يعتقد صوابه، وألا يقول ما لا دليل عليه، وقد انتهكه الأستاذ عمدًا ليظهر للتلميذ أن إجابته غير صحيحة، ويؤنبه على جهله بشيء كهذا، والتلميذ قادر على الوصول إلى مراد الأستاذ؛ لأنه يعلم أن لندن ليست في أمريكا، وذلك يستلزم أن الأستاذ يقصد بقوله شيئًا غير ما تقوله كلماته، وهو أن قول التلميذ غير صحيح.

+ انتهاك مبدأ المناسبة أو الترابط:
المثال الأول: حوار بين الضيفة وباسل:
- الضيفة: هل وصل الدكتور؟
- باسل: ماذا تفضلين أن تشربي؟
- الضيفة: يا باسل، هل وصل الدكتور؟
- باسل: عصير اللوز.
الاستلزام الحواري: لا يرغب باسل في الإجابة عن السؤال.
المثال الثاني: في حوار بين رجلين:
- الرجل الأول: أين زيد؟
- الرجل الثاني: ثمة سيارة صفراء تقف أمام منزل عمرو.
وما قاله الرجل الثاني بمعناه الحرفي ليس إجابة عن السؤال، فهو ينتهك مبدأ العلاقة المناسبة بالموضوع، ولكن السائل في ضوء المبادئ الأخرى للتعاون يسأل نفسه ما العلاقة الممكنة بين وقوف سيارة صفراء أمام منزل عمرو وسؤالي عن مكان زيد؟ ثم يصل إلى أن المراد بهذا القول إبلاغه رسالة مؤداها أنه إذا كانت لزيد سيارة صفراء فلعله عند عمرو.

+ انتهاك مبدأ النوعية أو الطريقة:
المثال الأول: الأخوات الكبار هن سرطان العشب في مروج الحياة.
الاستلزام الحواري: الأخوات الكبار لسن لطيفات ولديهن نزعة للسيطرة. 
المثال الثاني: في حوار بين رجلين:
- الرجل الأول: ماذا تريد؟
- الرجل الثاني: قم، واتجه إلى الباب، وضع المفتاح في القفل، ثم أدره ناحية اليسار ثلاث مرات، ثم ادفع الباب برفق.
وواضح مما قاله الرجل الثاني انتهاكًا لمبدأ من مبادئ الطريقة وهو "أوجز" إذ كان يكفي أن يقال: افتح الباب، وإذا نظرنا إلى هذا القول في ضوء تحقق مبادئ الحوار الأخرى كان لابد أن المتكلم يحاول به وجهًا غير ما يظهر، قد يكون مؤاخذته على ما يتميز به من بطء وتكاسل.
وبشكل مشابه يمكن شرح المعاني الضمنية في حالات السخرية والمعاني المجازية من خلال الرجوع إلى مبدأ التعاون.

- ويفرق جرايس بين نوعين من الاستلزام:
أ- الاستلزام العرفي أو الاصطلاحي conventional implicature: وهو قائم على ما تعارف عليه أصحاب اللغة من استلزام بعض الألفاظ دلالات بعينها لا تنفك عنها مهما اختلفت بها السياقات وتغيرت التراكيب، ومن ذلك مثلا في الإنجليزية (but) ونظيرتها في اللغة العربية (لكن) واللتان تستلزمان أن يكون ما بعدهما مخالفًا لما يتوقعه السامع.

ب- الاستلزام الحواري conversational implicature: متغير دائمًا بتغير السياقات التي يرد فيها، ولهذا النوع بعض الخواص منها:
1- الاستلزام الحواري يمكن إلغاؤه defeasible، ويكون ذلك عادة بإضافة قول يسد الطريق أمام الاستلزام أو يحول دونه.
2- الاستلزام الحواري لا يقبل الانفصال non-detachable عن المحتوى الدلالي، ويقصد جرايس بذلك أن الاستلزام الحواري متصل بالمعنى الدلالي لما يقال لا بالصيغة اللغوية التي قيل بها، فلا ينقطع مع استبدال مفردات أو عبارات بأخرى ترادفها.
3- الاستلزام الحواري متغير، والمقصود بالتغير أن التعبير الواحد يمكن أن يؤدي إلى استلزامات مختلفة في سياقات مختلفة.
4- الاستلزام الحواري يمكن تقديره calculability والمراد به أن المخاطب يقوم بخطوات محسوبة يتجه بها خطوة خطوة إلى الوصول إلى ما يستلزمه الكلام.
لكن التمييز بين النوعين لا يمكن الحفاظ عليه دائمًا، حيث يمكن للألفاظ المستخدمة في صيغ الطلب المؤدب كما في: من فضلك، هل يمكنك أن ..؟ التي تحسب قوتها أولاً بواسطة الاستلزام الحواري فقط، يمكن أن تصبح عبر الاستخدام المتكرر في نطاق الاستلزام الاصطلاحي.

- ويمكن أن نلخص رؤية جرايس للدلالة اللغوية للعبارة في أنها تنقسم عنده إلى قسمين:

الأول- المعاني الصريحة: هي المعاني المستخلصة من الصيغة الحرفية للجملة ذاتها (معاني مباشرة)، ويندرج تحتها :
1- المحتوى القضوي: يتمثل في معاني مفردات الجملة مضمومًا بعضها إلى بعض.
2- القوة الإنجازية الحرفية: المتمثلة في القوة الإنجازية المتضمنة في الجملة والمؤشر لها بصيغة الاستفهام، الأمر، النهي.

الثاني- المعاني الضمنية: هي المعاني التي تفهم انطلاقًا من السياق الذي ترد فيه (المعنى المستلزم)، فالسياق هو الذي يقوم بتحديد دلالاتها، ويندرج تحتها:
1- المعاني العرفية: هي المعاني المرتبطة بالجملة، والتي لا تتغير حتى ولو تغير سياق الجملة ويواكبها نوعان من المعاني: الاقتضاء و الاستلزام المنطقي.
2- معاني حوارية أو سياقية: هي المعاني التي تتولد طبقًا للسياقات التي تنجز فيها الجملة ويواكبها نوعان من المعاني هما:
أ- الاستلزام الحواري الخاص: وهو عبارة عن المعاني الناتجة عن سياق خاص.
ب- الاستلزام الحواري العام: وهو عبارة عن المعاني التي لم تعد مرتبطة بطبقة مقامية معينة.
ويسمي جرايس الانتقال من المعنى الخاص إلى المعنى العام بــــ"تحجر القوة الإنجازية المستلزمة".

نظرية البلاغة الجديدة (حجاج بيرلمان)

ما المقصود بنظرية الخطابة أو البلاغة الجديدة ؟

- هي نظرية في الحجاج ظهرت مع كتاب "مصنف في الحجاج، الخطابة الجديدة" لشايم بيرلمان Chaïm Perelman ولوسي أولبريخت تيتيكاه Lucie Olbrechts Tytica الذي نشر في عام 1958م، يمثل أوْج ما توصلت إليه المدرسة البلجيكية.

- سبب التسمية بالخطابة الجديدة أن الحجاج عند المؤلفين يستند إلى صناعة الجدل من ناحية وصناعة الخطابة من ناحية أخرى، بكيفية تجعل الحجاج شيئًا ثالثًا، لا هو بالجدل ولا هو بالخطابة، ولكنه (خطابة جديدة)، وفيه حاول بيرلمان وتيتيكا المزج بين الخطابة الأرسطية والجدل الأرسطي في سبيل بناء هذه (الخطابة الجديدة).

- يؤخذ في الاعتبار:
1- كون بيرلمان فيلسوف في مادة القانون.
2- اعتماد المؤلفين على مدونة تدور على ضروب المحاجات التي يستخدمها الصحفيون في صحفهم والسياسيون في خطبهم والمحامون في مرافعاتهم والقضاة في حيثياتهم والفلاسفة في تصانيفهم، فكانت النظرية من أجل ذلك تركز على جانب الظفر بالحجة أو مصادر الأدلة أكثر من اهتمامها بجمالية العرض اللغوي أي الأسلوب.

- قسم المؤلفان كتابهما ثلاثة أقسام: 
1- أطر الحجاج. 
2- منطلقات الحجاج. 
3- تقنيات الحجاج.

*** القسم الأول- أطر الحجاج: 
وأهم ما فيه تعريف الحجاج والتفريق بينه وبين الخطابة والجدل.

- فيعرفان الحجاج بقولهما:"موضوع نظرية الحجاج هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم".
ويقولان في موضع آخر:"غاية كل حجاج أن يجعل العقول تذعن لما يطرح عليها من آراء، أو أن تزيد في درجة ذلك الإذعان، فأنجع الحجاج ما وفِّق في جعل حدة الإذعان تقوى درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب (إنجازه أو الإمساك عنه)، أو هو ما وفِّق على الأقل في جعل السامعين مهيئين للقيام بذلك العمل في اللحظة المناسبة".

- حاول المؤلفان تخليص الحجاج من ربقة المنطق ومن أسر الأبنية الاستدلالية المجردة وتقريبه من مجالات استخدام اللغة مثل: مجال العلوم الإنسانية والفلسفة والقانون، وإضفاء بعد عقلي للخطابة يحفظها من أن تلتبس بالسفسطة والمغالطة والمناورة، اعتبار الحجاج "حوارًا" وفضاء اتفاق بين الخطيب وجمهوره، وليس هو استدلالا شكليًا ولا مغالطة أو مناورة وتلاعب بالمشاعر والعقول، وغايته تحقيق الاقتناع الذي يقع في منطقة وسطى بين الاستدلال والإقناع.

*** القسم الثاني - منطلقات الحجاج: 
وفيه الحديث عن مقدمات الحجاج والاختيار بينها وطرق عرضها وصيغ العرض.

- مقدمات الحجاج تؤخذ على أنها مسلمات يقبل بها الجمهور، وتتمثل في: (الوقائع والحقائق والافتراضات والقيم وهرمية القيم والمعاني أو المواضع)، وهذه المقدمات تخضع للاختيار، ويقع هذا الاختيار على أساس نوعية الجمهور المتلقي للحجاج، واختيار هذه المقدمات بدوره يخضع لطريقة العرض، علمًا بأن اختيار عناصر الحجاج وعرضها عمليتان متداخلتان إلى حد أنهما تشكلان عملية واحدة.

- صيغ الحجاج اللفظية:
حاول المؤلفان ضبط الصيغ التعبيرية والموجهات التعبيرية التي لها دور حجاجي في عرض المعطيات، ومن ذلك النفي و طرائق الربط بين القضايا بواسطة أدوات الاستئناف فهي تبني النتيجة على السبب أو تحدث هرمية في شأن القيم، ومنها عبارات من قبيل: رغم أن، وإن كذا، فهي من التقنيات التي تتيح للخطيب سلاسة انقياد السامعين.

- حصر المؤلفان الموجهات بالمعنى اللساني التي لها دور حجاجي في عرض المعطيات في أربعة هي:
1- التوجيه الإثباتي: ومن شأنه أن يستخدم في أي حجاج.
2- التوجيه الإلزامي: وصيغته اللغوية هي الأمر، لكن ليس لهذه الصيغة قوة إقناعية، وذلك على عكس ما قد يعتقد، إذ يستمد الأمر طاقته الإقناعية من شخص الآمر وليس من ذات الصيغة، ولهذا يتحول الأمر إلى معنى الترجي حين لا يكون الآمر مؤهلاً شرعيًا لتوجيه الأوامر.
3- التوجيه الاستفهامي: وهي ذات قيمة خطابية جليلة إذ يفترض السؤال شيئًا تعلق به ذلك السؤال، ويوحي بحصول إجماع على وجود ذلك الشيء، كما أن اللجوء إلى الاستفهام قد يهدف أحيانًا إلى حمل من وجه إليه الاستفهام على إبداء موافقته -إذا أجاب- على ما جاء الاستفهام يقتضيه.
4- التوجيه بالتمني: ومداره على الصيغ المفيدة تمنيًا، وهذه الصيغ يستفاد منها الاعتماد على فكرة ما أو رأي ما تقر به المجموعة.

- وصيغ لغوية أخرى لها بعد حجاجي شأن الأزمنة، وشأن استخدام الضمائر يعوض بعضها بعضًا، ومجال هذه الصيغ التوجيهية في الحجاج أوسع بكثير من مجال التوجيهات المنطقية، وقد حصرها المناطقة في اليقين والإمكان والضرورة، فالهدف من الحجاج ليس تدقيق بعض الجهات المنطقية للقضايا بقدر ما هو توفير الوسائل المفضية إلى إقناع الجمهور وحمله على التصديق من خلال التنويع في ضروب التعبير عن الفكرة.
ومن الأشكال أو الصيغ اللغوية ذات المدى الحجاجي الوجوه أو الصور البلاغية التي كثيرًا ما نظر إليها نظرة أدبية حصرتها في وظيفة التحسين والتزويق، إن ما يهم صاحبي "مصنف في الحجاج" هو النظر إلى بعض الصور البلاغية باعتبارها مستخدمة في الخطاب لحاجات الحجاج، وأنها ذات قيمة حجاجية حتى وإن لم يقبل الجمهور بالأطروحة التي جاء يعرضها الخطاب، ومن هذه الصور الكناية والمجاز المرسل بجميع وجوهه، وكذلك الاستدراك أو التدارك والتكرار والإسهاب والالتفات في الأزمنة وفي الضمائر والتلميح والشاهد والاستفهام ..إلخ.

*** القسم الثالث - التقنيات الحجاجية:
حصر بيرلمان وتيتيكا أشكال الحجاج وبناه في تقنيتين أو طريقتين حجاجيتين وهما: طريقة الوصل وطريقة الفصل الحجاجيين.

++ الطرائق الاتصالية في الحجاج:
وهي التي تقرب بين العناصر المتباينة في أصل وجودها؛ فتتيح بذلك قيام ضرب من التضامن بينها، لغاية إبراز تلك العناصر في بنية واضحة، ولغاية تقويم أحد هذه العناصر بواسطة الآخر تقويمًا إيجابيًا أو سلبيًا. وتتمثل في ثلاثة أنواع من الحجج هي:
1- الحجج شبه المنطقية.
2- الحجج المؤسسة على بنية الواقع.
3- الحجج المؤسسة لبنية الواقع.

+ أولا- الحجج شبه المنطقية: التي تستمد طاقتها الإقناعية في تشبه الطرائق الشكلية والمنطقية والرياضية في البرهنة، لكن هي تشبهها فحسب وليست هي إياها، إذ في هذه الحجج شبه المنطقية ما يثير الاعتراض. وتنقسم إلى:

أ- التي تعتمد البنى المنطقية وهي أنواع:
1- التعارض: مثل لم أقتل كائنا حيا في حياتي (وهو يتعالج من الالتهابات يقتل البكتيريا)
2- التماثل: مثل (المرأة هي المرأة) أو (الأب يبقى دائمًا أبا).
3- التبادلية وقاعدة العدل: مثل (أحلال عليكم حرام علينا؟). 
4- التعدية: مثل (عدو عدوي صديقي) حيث يدعم الطابع شبه المنطقي في هذه الحكمة ما يمكن أن يستنتج منها وهو (صديق عدوي عدوي).

ب- التي تعتمد العلاقات الرياضية ومنها:
1- إدماج الجزء في الكل: ما ينطبق على الكل ينطبق على الجزء (ما أسكر كثيره فقليله حرام)
2- تقسيم الكل إلى أجزائه المكونة له: كقولنا: الكلام اسم وفعل وحرف، وفيه إشعار الغير بوجود الشيء موضوع التقسيم من خلال التصريح بوجود أجزائه.

+ ثانيًا- الحجج المؤسسة على بنية الواقع: 
وهي لا تصف الواقع وصفًا موضوعيًا، وإنما هي طريقة في عرض الآراء المتعلقة بهذا الواقع، ويمكن أن تكون هذه الآراء وقائع أو حقائق أو افتراضات.

أ- وجوه الاتصال التتابعي: 
1- الوصل السببي والحجاج وهو ثلاثة ضروب:
- حجاج يرمي إلى الربط بين حدثين متتابعين بواسطة رابط سببي مثل: اجتهد فنجح.
- حجاج يرمي إلى أن يستخلص من حدث ما وقع سببًا أحدثه وأدى إليه مثل: نجح لأنه اجتهد.
- حجاج يرمي إلى التكهن بما سيترتب على حدث ما من نتائج مثل: هو يجتهد فسينجح.
ومعنى هذا أن في الربط السببي يكون المرور في الاتجاهين: من السبب إلى النتيجة ومن النتيجة إلى السبب، وفي هذا الإطار يمكن أن نتحدث عما يسميه بيرلمان الحجة البراغماتية، وحد هذه الحجة أنها الحجة التي يحصل بها تقويم عمل ما أو حدث ما باعتبار نتائجه الايجابية أو السلبية، ومن هنا كان للحجة البرغماتية تأثير مباشر في توجيه السلوك وعدت من أهم وسائل الحجاج، إن مدار هذه الحجة كما قلنا على تثمين حدث ما بذكر نتائجه فعلى هذا لا يكون المقصود من هذه الحجة مجرد التثمين بل وتوجيه العمل أيضًا.
2- حجة التبذير: وهي حجة تقوم على الاتصال والتتابع وإن لم تكون ليعتمد فيها أساسًا على السببية، وتتمثل في أن نقول حسب بيرلمان:" بما أننا شرعنا في إنجاز هذا العمل وضحينا في سبيله بما لو أعرضنا عن تمامه لكان مضيعة للمال وللجهد فإنه علينا أن نواصل إنجازه".
3- حجة الاتجاه: وتتمثل أساسًا في التحذير من مغبة اتباع سياسة المراحل التنازلية كقولنا إذا تنازلت هذه المرة وجب عليك أن تتنازل أكثر في المرة القادمة والله أعلم أين ستقف بك سياسة التنازل هذه؟ أو التحذير من مغبة انتشار ظاهرة ما مما يسمى حجة الانتشار أو حجة العدوى.

ب- الاتصال التواجدي:
1- الشخص وأعماله: الأعمال تجلو جوهر الشخص وتفسره، كذلك في المقابل يمكن أن يكون الشخص أو ما نعرفه عنه هو الذي يفسر لنا ما غمض من أعماله، فالشخص ههنا ينهض لدور السياق الذي يعين على تأويل العمل، وفي هذه الحالة يلعب القصد أو النية أو الطوية دورًا مهمًا ونعني بها ما توفر لدينا من أفكار وآراء سابقة حول الشخص صاحب العمل، وهكذا فإن اللجوء إلى القصد او النية يمثل مناط الحجاج فهو يربط العمل بصاحبه ويعيننا على فهم عمله وعلى إمكان تقويمه، وإذن علاقة الوصل التواجدية لا يتبع الحجاج فيها مسار (عمل - شخص)، وإنما يتبع فيها أيضًا مسار (شخص - عمل) وهو ما أسماه بيرلمان "التداخل بين العمل والشخص".
2- حجة السلطة: حجة السلطة تستخدم أعمال شخص أو مجموعة أشخاص أو أحكامهم حجة على صحة أطروحة ما، وتختلف السلطة وتتعدد تعددًا كبيرًا فقد تكون "الإجماع" أو "الرأي العام" أو "العلماء" أو "الفلاسفة" أو "الكهنوت" أو "الأنبياء"، وقد تكون غير شخصية مثل "الفيزياء" أو "العقيدة"، وقد يعمد في الحجاج بالسلطة إلى ذكر أشخاص معينين بأسمائهم، على أن تكون سلطة هؤلاء جميعًا معترفًا بها من قبل جمهور السامعين في المجال التي ذكرت فيه، والعادة في الحجاج ألا تكون الحجة بالسلطة الحجة الوحيدة فيه وإنما تأتي هذه الحجة مكملة لحجاج يكون غنيًا بحجج أخرى غير حجة السلطة، كما أنه كثيرًا ما نعمد إلى الثناء على هذه السلطة قبل استخدامها حجة في كلامنا.
ج- الاتصال الرمزي: إن الوصل الرمزي يقوم على انتقال من الرمز إلى ما يرمز إليه مثلما ينتقل من العَلَم إلى الوطن، وما ثيره هذه الأشياء المادية من عواطف وأحاسيس يعود إلى ما بين الرمز والمرموز إليه من علاقة مشاركة أو تبرير ، فهذه العلاقة هي التي تثير العاطفة الدينية أو الوطنية، وعلى هذا يكون للوصل الرمزي وهو ربط تواجدي دور كبير في التأثير في الكائنات التي صنعته وجعلت له دلالة ما، فمن الضروري إذن بالنسبة إلى صانع الحجاج أن يدرك مدى اكتساب شيء ما طبيعة رمزية.
إن الرمز يؤثر في الذين يقرون بوجود الاتصال بين طرفيه، لكنه لا يؤثر بأي وجه في الذين لا يدركون تلك العلاقة الترابطية القائمة بين طرفيه، وهو ما يعني أن الرمز خاص بقوم ما وبثقافة ما، ولا يصلح أن يستخدم في مخاطبة جمهور عام، وهو ما يؤكده بعده اللاعقلي.

+ ثالثًا- الحجج المؤسسة لبنية الواقع:
1- تأسيس الواقع بواسطة الحالات الخاصة ومنها:

أ- المثل: ويؤتى به في الحالات التي لا توجد فيها عادة مقدمات ، إن المحاجة بواسطة المثل تقتضي وجود بعض الخلافات في شأن القاعدة الخاصة التي جيء بالمثل لدعمها وتكريسها، ويمكن للمثل أن تبني عليه قاعدة تكون عامة وتشكل قانونًا.

ب- البينة أو الاستشهاد: والفرق بين (المثل) و(الاستشهاد) أن الغاية من (المثل) تأسيس القاعدة، أما (الاستشهاد) من شأنه أن يقوي درجة التصديق بقاعدة ما معلومة وذلك بتقديم حالات خاصة توضح القول ذا الطابع العام، وتقوي حضور هذا القول في الذهن، وعلى هذا فإن (الاستشهاد) يؤتى به للتوضيح في حين أن (المثل) يؤتى به للبرهنة ولتأسيس القاعدة، وعلى العموم فإن (المثل) يكون عادة سابقًا للقاعدة، في حين يكون (الاستشهاد) لاحقًا قصد تقوية حضور الحجة وقصد جعل القاعدة المجردة حسية وملموسة.
ج- النموذج وعكس النموذج: ومداره على كائن نموذج يصلح على صعيد السلوك لا لتأسيس قاعدة عامة أو دعمها فحسب، وإنما يصلح كذلك للحض على عمل ما اقتداء به ومحاكاة له ونسجًا على منواله وإن بطريقة غير موفقة تمام التوفيق، وفي خط مواز (للمثال أو النموذج) يوجد (عكس النموذج)، فبواسطة حجة (عكس النموذج) هذه يكون الحض لا على الاقتداء بطبيعة الحال، وإنما على الانفصال عن الشخص الذي يمثل (عكس النموذج).

2- الاستدلال بواسطة التمثيل: يرى المؤلفان أن (التمثيل) في الحجاج ينبغي أن تكون له مكانته باعتباره أداة برهنة، فهو ذو قيمة حجاجية تظهر حين ننظر إليه على أنه تماثل قائم بين البنى، وصيغة هذا التماثل العامة هي: العنصر (أ) يمثل بالنسبة إلى العنصر (ب) ما يمثله العنصر (ج) بالنسبة إلى العنصر (د)، فالتمثيل مواجهة بين بنى متشابهة وإن كانت من مجالات مختلفة.
إن الشرط في (التمثيل) وهو من الحجاج القائم على الترابط بين أشياء ما كان لها أن تكون مترابطة بدءًا، أن يكون الموضوع والحامل من ميدانيين مختلفين، فإذا كانت العلاقتان أي العلاقة بين عنصري الموضوع من ناحية وبين عنصري الحامل من ناحية أخرى تنتميان إلى مجال واحد وتشملهما بنية واحدة لم تسم الظاهرة إذا (تمثيلا) وإنما تسمى (استدلالا) بواسطة (المثل أو الاستشهاد)، بحيث يكون الموضوع والحامل ههنا حالتين خاصتين يوسسان قاعدة أو يدعمانها.

++ الطرائق الانفصالية في الحجاج:

أما طرائق الفصل أو الطرائق الانفصالية فهي تلك الطرائق التي تقوم على الفصل بين عناصر تقتضي في الأصل وجود وحدة بينها ولها مفهوم واحد، فهي عناصر راجعة إلى اسم واحد يعينها، وإنما وقع الفصل بينها وعمد إلى كبر المفهوم الواحد الذي يجمع بينها لأسباب دعا إلها الحجاج، ويبني الحجاج القائم على كسر وحدة المفهوم بالفصل بين عناصره المتضامنة، على زوج: الظاهر/ الحقيقة، ويمثل الظاهر الحد الأول، والحقيقة الحد الثاني، وكل الأشياء والأنام والمعطيات يمكن أن يكون لها حدان، فهي من ناحية لها ظاهر هو الشيء أو الإنسان أو المعطى كما هو مشاهد معاين، فذلك هو الحد الأول، وهي من ناحية أخرى لها حقيقة هي جوهر ذلك الشيء أو الإنسان أو المعطى وصورته المثلى، فذلك هو الحد الثاني.

ومثال ذلك أن يقال عن شخص غير ذي مروءة:"ليس هذا الإنسان بإنسان"، فهنا يمثل الإنسان الأول الظاهر، ظاهر وجوده في المجتمع ويمثل الإنسان الثاني الحقيقة أي حقيقة الإنسان مطلقًا وصورته المثلى كما ركزها في عقلنا الدين والأخلاق والثقافة والمجتمع.
إن زوج الظاهر/ الواقع أو الحقيقة هو الزوج الذي إليه ترد كل ضروب الفصل بين المفاهيم، وذلك لعمومه ولأهميته الفلسفية.

وأكثر ما يكون الفصل داخل المفهوم الواحد في الحدود والتعريفات فالتعريف كما يقول المؤلفان وسيلة حجاج شبه منطقي، وهو أيضًا وسيلة لإحداث الفصل داخل المفاهيم خصوصًا إذا جاءت هذه التعريفات تزعم تقديم معنى للمفهوم الحقيقي في مقابل معناه الظاهري الجاري به العرف والعادة، وقد يكون الاعتراض على المعنى الظاهر مفهومًا فحسب.

يتمثل دور الفصل الحجاجي بواسطة الطرائق اللغوية والكتابية في حمل السامع أو القارئ على تمثل مظهرين اثنين للشيء الواحد أو المعطى الواحد، مظهر زائف ظاهري خداع براق من حيث إنه أول ما تصادفه الحواس ويراه الفكر، ومظهر هو الحقيقة عينها، على أن طريقة الفصل هذه لا تعين السامع أو القارئ على تمثل حقيقة الأشياء فحسب بل هي تدعوه بإلحاح إلى معانقتها فهي الحقيقة وإلى ترك غيرها فهو الزيف.

(ينظر لمزيد من الإيضاح مؤلفات عبد الله صولة رحمه الله)

السبت، 28 أبريل 2018

ما المقصود بنظرية الأفعال الكلامية Speech Acts ؟

نظرية الأفعال الكلامية من أهم نظريات التداولية Pragmatics ولها مقدمات ساهمت في ظهورها، ومرت بعدة مراحل حتى وصلت إلى ما هي عليه، ويتمثل ذلك في:

-"الفلسفة التحليلية" على يد جوتلوب فريجه Gottlob Frege.
-"فلسفة اللغة العادية" على يد لودفيج فيتجنشتاين Wittgenestein، مرورًا بريناتش Reinach وجاردنر Gardiner. 
- مرحلة التأسيس الحقيقية ويمثلها أوستن J.L.Austin.
- مرحلة النضج والضبط المنهجي ويمثلها سيرل J.R.Searle.

واستفاد منها جرايس وديكرو.

جهود أوستن:
الفيلسوف اللغوي الإنجليزي أوستن John L.Austin الذي ألقى سلسلة من المحاضرات في جامعة أكسفورد ما بين عامي (1952-1954م)، كما ألقى مجموعة أخرى من المحاضرات في جامعة هارفارد عام 1955م، وقد جمعت المحاضرات الأخيرة في كتاب طبع بعد وفاته عام 1962م وعنوانه:"كيف نفعل الأشياء بالكلمات" أو "كيف ننجز الأفعال بالكلمات "How to do words with things".

تراجع أوستن عن فكرة تقسيم الجملة إلى خبرية وإنشائية، وما تبع ذلك من محاولة وضع المعايير للتمييز بينهما، وتعامل مع الجملة على أنها قول وعمل، وتشتمل على ثلاثة أنواع من الأفعال الكلامية تشكل كيانا واحدًا، وتؤدى في الوقت نفسه الذي ينطق فيه بالفعل الكلامي، ولا يمكن تجزئتها أو فصلها إلا من قبيل التيسير الإجرائي قصد الفهم والدراسة فقط، وهي:

1- الفعل القولي: ويشمل الفعل الصوتي والفعل التركيبي والفعل الدلالي.
2- الفعل الإنجازي: ويقصد به ما يؤديه الفعل اللفظي أو الصوتي من وظيفة في الاستعمال.
3- الفعل التأثيري: وهو ما يتركه الفعل الإنجازي من تأثير في السامع أو المخاطب سواء أكان التأثير تأثيرا جسديًّا أم فكريًّا.

وصنف أوستن الأعمال التي ننجزها من خلال اللغة إلى خمسة أصناف تدخل تحت الفعل الإنجازي، ولكنه لم يتردد في القول بأنه غير راضٍ عن هذا التصنيف، وأن هناك إمكانات لظهور تصنيفات أخرى، وأقسامه الخمسة هي:

1- الحكميات Verdictives: وهي التي تعبر عن حكم يصدره محلف، أو محكَّم، أو حكم، وليس من الضروري أن تكون الأحكام نهائية أو نافذة، فقد تكون تقديرية أو ظنية، مثل: يبرئ، يقدر، يعين.
2- الإنفاذيات Exercitives: التي تعبر عن اتخاذ قرار في صالح شيء أو شخص أو ضده، مثل: يأذن، يطرد، يحرم.
3- الوعديات Commissives: وهي التي تعبر عن تعهد المتكلم بفعل شيء أو إلزام نفسه به، مثل: أعد، أتعهد، أضمن.
4- السلوكيات Behabitives: وهي التي تعبر عن رد فعل لسلوك الآخرين، ومواقفهم، ومصائرهم، كالاعتذار والشكر والتعاطف.
5- التبيينيات Expositives: وهي التي تستخدم لتوضيح وجهة النظر أو بيان الرأي وذكر الحجة، مثل: الإثبات، الإنكار، المطابقة.

جهود سيرل:
سيرل فيلسوف أمريكي معاصر، متخصص في فلسفة اللغة وفلسفة الذهن. ولد في دنفر بولاية كولورادو عام 1932، ودرس الفلسفة في أوكسفورد، قام سيرل Searle بتعديل التقسيم الذي قدمه أوستن للأفعال الكلامية فجعله أربعة أقسام، هي:

1- الفعل النطقي Utterance act: وهو يشمل الجوانب الصوتية والنحوية والمعجمية، وهو يضم كل من الفعل الصوتي Phonetic act والتركيبي Phatic act عند أوستن.
2- الفعل القضوي propositional act: نسبة إلى القضية التي تقوم على المتحدث عنه أو المرجع reference، والمتحدث به أو الخبر predication، ويقابل الفعل الدلالي Rhetic act عند أوستن، وينقسم إلى قسمين هما:
أ- الفعل الإحالي reference act: يسهم في ربط الصلة بين طرفي الخطاب (المتكلم والسامع)، وقد تكون الإحالة إلى أشخاص أو أماكن أو أشياء أو غير ذلك، داخل النص أو خارجه.
ب- الفعل الحملي predication act: وهو الإسناد، أي أن نسند نسبة المحمول أو الحمل إلى الموضوع المحال عليه.
والفعلان معا -الإحالي والحملي- يشكلان معًا قضية واحدة proposition وهي المحتوى المشترك بينهما common content.
3- الفعل الإنجازي Illocutionary act: يعتبر سيرل الفعل الإنجازي بمثابة الوحدة الصغرى minimal unit للاتصال اللغوي ككل، ويدل على القوة الإنجازية دليل يسمى دليل القوة الإنجازية illocutionary force indicator يبين لنا نوع الفعل الإنجازي الذي يؤديه المتكلم بنطقه للجملة.
4- الفعل التأثيري Perlocutionary act: يتمثل فيما يمكن أن يحدثه الفعل الإنجازي في متلقيه من تأثير على قناعاته وأفكاره ومشاعره وعواطفه.

شروط الملاءمة عند سيرل: 
طور سيرل شروط الملاءمة felicity conditions التي تحدث عنها أوستن، والتي إذا تحققت في الفعل الكلامي كان موفقًا، وجعلها أربعة شروط قد تزيد وقد تنقص حسب طبيعة الفعل، وهي:

1- شرط المحتوى القضوي :propositional content في فعل الوعد مثلا إذا كان دالاً على حدث في المستقبل يلزم به المتكلم نفسه، فهو فعل في المستقبل مطلوب من المخاطب .
2- الشرط التمهيدي :preparatory ويتحقق إذا كان المتكلم قادرًا على إنجاز الفعل (في الوعد)، والمتكلم على يقين من قدرة المخاطب على إنجاز الفعل (في الرجاء)، وليس من الواضح أن المخاطَب سينجز الفعل المطلوب في الظروف العادية بصورة تلقائية.
3- شرط الإخلاص :sincerity ويتحقق حين يكون المتكلم مخلصًا في أداء الفعل، كأن يريد حقًا من المخاطب إنجاز الفعل (في الرجاء).
4- الشرط الأساسي :essential ويتحقق حين يحاول المتكلم التأثير في السامع لينجز الفعل

تصنيف سيرل للأفعال الإنجازية:
أعاد سيرل النظر في تصنيف أوستن للأفعال الإنجازية فبين ما فيه من أوجه الضعف، وقدم تصنيفًا بديلاً للأفعال الإنجازية، وقد أقام تقسيمه على أسس منهجية ثلاثة ورد ذكرها في الأبعاد (المعايير) التي يختلف بها كل فعل إنجازي عن الآخر، ونص على أنها أهم هذه الأبعاد جميعًا، وأنه سيبني عليها تصنيفه للأفعال الإنجازية:

1- الغرض الإنجازي illocutionary point:"الغرض الإنجازي يعد جزءًا من القوة الإنجازية لكنه ليس إياها، فالغرض الإنجازي من الرجاء مثلاً هو نفسه الغرض الإنجازي للأمر، لكن القوة الإنجازية في كل منهما تختلف اختلافًا بينًا، فالقوة الإنجازية نتاج عناصر عديدة ليس الغرض الإنجازي إلا واحدًا منها".
2- اتجاه المطابقة direction of fit : مفهوم اتجاه المطابقة هو مفهوم مسؤولية المطابقة، أي: من الذي يفترض فيه أن يحقق المطابقة، وقد استخدم سيرل المثال الذي ضربه أنسكوم لتوضيح مفهوم اتجاه المطابقة، وهو على أربعة أقسام:
أ- اتجاه المطابقة من القول إلى العالم words- to- world direction of fit The: يتحقق النجاح في حالة تطابق المحتوى القضوي مع واقعة state of affairs مستقلة في العالم.
ب- اتجاه المطابقة من العالم إلى القول The world- to- words direction of fit: يتحقق النجاح في المطابقة بتغير العالم ليطابق المحتوى القضوي.
ج- اتجاه المطابقة المزدوج Double direction of fit: يتحقق النجاح في المطابقة بتغير العالم ليطابق المحتوى القضوي بتمثيل representing العالم على أنه تغير على هذا النحو.
د- اتجاه المطابقة الفارغ The null or empty direction of fit: لا تجود مشكلة في نجاح تحقق المطابقة بين المحتوى القضوي والعالم؛ لأنه عمومًا يقع القول مع افتراض حصول المطابقة مسبقًا.
3- شرط الإخلاص sincerity condition.
والأصناف الخمسة التي ذكرها سيرل للأفعال الإنجازية هي:
1- الإخباريات assertive:
أ- الغرض الإنجازي: هو التعهد للمستمع بحقيقة الخبر، فهي أن نقدم الخبر بوصفه تمثيلاً لحالة موجودة في العالم، ومن أمثلتها: الأحكام التقريرية والأوصاف الطبية والتصنيفات والتفسيرات.
ب- اتجاه المطابقة: من القول إلى العالم (words-to world)، فهي يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة.
ج- شرط الإخلاص: هو دائمًا "الاعتقاد"، وأبسط اختبار لتحديد هوية الإثبات هو أن نسأل ما إذا كان المنطوق صادقًا أو زائفًا .
2- التوجيهيات directives:
أ- الغرض الإنجازي: محاولة جعل المستمع يتصرف بطريقة تجعل من تصرفه متلائمًا مع المحتوى الخبري للتوجيه، ومن أمثلتها: الأوامر والنواهي والطلبات.
ب- اتجاه المطابقة: من العالم إلى القول (world-to-words)، وهي لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، ولكن يمكن أن تطاع أو تهمل، أو يخضع لها أو تستنكر ... إلخ.
ج- شرط الإخلاص: هو دائمًا "الرغبة" بأن يقوم المستمع بالفعل الموجه به.
3- الالتزاميات commissives:
أ- الغرض الإنجازي: تعهد من المتكلم لمباشرة مساق الفعل الممثل في المحتوى الخبري، ومن أمثلتها: المواعيد والنذور والرهون والعقود والضمانات والتهديد ولكنه ضد مصلحة المستمع ولا يعود عليه بالنفع.
ب- اتجاه المطابقة: من العالم إلى القول (world-to words)، وهي لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، ولكن يمكن أن يتم تنفذيها أو يحافظ عليها، أو يحنث بها.
ج- شرط الإخلاص: هو دائمًا "القصد"، فكل وعد أو تهديد مثلا هو تعبير عن قصد للقيام بشيء ما.
4- التعبيريات expressive:
أ- الغرض الإنجازي: التعبير عن شرط الصدق للفعل الكلامي، ومن أمثلتها: الاعتذارات والتشكرات والتهاني والترحيبات والتعزيات.
ب- اتجاه المطابقة: الاتجاه الفارغ؛ لأن حقيقة المحتوى الخبري يسلم بها فحسب، إذا قلت "أعتذر لضربك"،"أو تهانينا على فوزك بالجائزة" فأنا أسلم تسليمًا بأنني ضربتك، أو أنك فزت بالجائزة، ولذلك أفترض قبليًّا وجود اقتران بين المحتوى الخبري والواقع.
ج- شرط الإخلاص: يتغير مع تغير نمط التعبير، فالاعتذار صادق إذا كان المتكلم يشعر بالأسف فعلًا عما يعتذر عنه، والتهاني صادقة إذا كان المتكلم يشعر بالبهجة حقًا لما يهنئ المستمع عليه. 
5- الإعلانيات declaratives:
أ- الغرض الإنجازي: إحداث تغيير في العالم بتمثيله وكأنه قد تغير، فتخلق الأفعال الأدائية وكذلك التصريحات الأخرى، حالة فقط من خلال تمثيله وكأنه قد تغير، أو بعبارة أخرى: إحداث تغيير في العالم، بحيث يطابق العالم مضمون القضية بمجرد الإنجاز الناجح لمضمون الفعل الكلامي، ومن أمثلتها:"لذلك أعلن اندلاع الحرب"، "أنت مطرود"، "أنا مستقيل". 
ب- اتجاه المطابقة: قد يكون من القول إلى العالم أو من العالم إلى القول أي الاتجاه المزدوج.
ج- شرط الإخلاص: لا تحتاج إلى شرط إذ يكفي إنجازها بنجاح لتحقيق المطابقة .

في مرحلة تالية ميز سيرل بين ما أسماه الأفعال الكلامية المباشرة direct والأفعال الكلامية غير المباشرة indirect.

وقد استفاد جرايس من هذه الجهود في مبدأ التعاون والاستلزام الحواري، واستفاد منها أيضًا ديكرو في نظرية الحجاج في اللغة وما يعرف بالتداولية المدمجة.

ما المقصود بالحجاج؟

- يعرّف بيرلمان Perelman وتيتيكا (تيتيكاه) الحجاج تعريفات عدة في مواضع مختلفة من كتابهما أهمها قولهما:"موضوع نظرية الحجاج هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم".

وقولهما في موضع آخر:"غاية كل حجاج أن يجعل العقول تذعن لما يطرح عليها من آراء، أو أن تزيد في درجة ذلك الإذعان، فأنجع الحجاج ما وفِّق في جعل حدة الإذعان تقوى درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب (إنجازه أو الإمساك عنه)، أو هو ما وفِّق على الأقل في جعل السامعين مهيئين للقيام بذلك العمل في اللحظة المناسبة". 

- ويعرفه بلونتين بقوله:"هو العملية التي من خلالها يسعى المتكلم إلى تغيير نظام المعتقدات والتصورات لدى مخاطبه بواسطة الوسائل اللغوية"، واعتبره بلونتين أعم تعريف للحجاج، وقد اعتمد في صياغته اعتمادًا واضحًا على تعريف بيرلمان وتيتيكا. 

- أما ديكرو وأنسكومبر فيعرفان الحجاج بأنه:"تقديم الحجج والأدلة المؤدية ّإلى نتيجة معينة، وهو يتمثل في إنجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب". 

- ويعرف طه عبد الرحمن الحجاج بقوله:"حد الحجاج أنه كل منطوق به موجه إلى الغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحق له الاعتراض عليها". 

وهي تعريفات تدور حول استخدام اللغة وتوظيف وسائلها في التأثير على المخاطَب، على اختلاف في درجة هذا التأثير (تسليم، تغيير، إفهام ..).

لمحة تاريخية عن مصطلح Pragmatics


- لفظة Pragma في الإغريقية تعني فعالية أو عملا أو مسألة، والمصطلح Pragmaticus يوجد فى اللاتينية المتأخرة، كما أن المصطلح Pragmaticos يوجد في اليونانية، كلا المصطلحين بمعنى العملى.


(هل استخدم في العصر الحديث؟)

- شاع في بداية القرن العشرين مصطلح Pragmatism، وأول من أدخل كلمة Pragmatism في الفلسفة المعاصرة تشارلز ساندر بيرس Peirce م، فبيرس 1839-1914 أول من استخدم هذا اللفظ عام 1878م. ويشير إلى المدرسة الفلسفية التي ظهرت في أمريكا وتذهب إلى أن الفكرة النظرية لا تجدي نفعًا ما لم تكن لها تطبيقات عملية. 

(من أين أتى به؟) 

- بيرس يعترف أنه قد توصل إليه بعد دراسته للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. 


- المصطلح Pragmatics يعود بمفهومه الحديث إلى الفيلسوف الأمريكي تشارلز موريس Charles Morris الذي استخدمه سنة 1938م. ويشير إلى فرع من فروع ثلاثة يشتمل عليها علم العلامات أو السيمية Semiotics. ويهتم بعلاقة العلامات بمستخدميها 

(هل استفاد موريس من بيرس؟) 

- التداولية Pragmatics لم تصبح مجالا يعتد به في الدرس اللغوي المعاصر إلا في العقد السابع من القرن العشرين بعد أن قام على تطويرها ثلاثة من فلاسفة اللغة المنتمين إلى التراث الفلسفي لجامعة أكسفورد هم: 

أوستن J.L.Austin 

وسيرل J.L. Searle 

وجرايس H.P. Grice. 


ومن الغرابة بمكان أن مصطلح Pragmatics لم يظهر في أي عمل من أعمالهم. 

(من أدخل جهودهم تحت هذا المصطلح؟)