نظرية الأفعال الكلامية من أهم نظريات التداولية Pragmatics ولها مقدمات ساهمت في ظهورها، ومرت بعدة مراحل حتى وصلت إلى ما هي عليه، ويتمثل ذلك في:
-"الفلسفة التحليلية" على يد جوتلوب فريجه Gottlob Frege.
-"فلسفة اللغة العادية" على يد لودفيج فيتجنشتاين Wittgenestein، مرورًا بريناتش Reinach وجاردنر Gardiner.
- مرحلة التأسيس الحقيقية ويمثلها أوستن J.L.Austin.
- مرحلة النضج والضبط المنهجي ويمثلها سيرل J.R.Searle.
واستفاد منها جرايس وديكرو.
جهود أوستن:
الفيلسوف اللغوي الإنجليزي أوستن John L.Austin الذي ألقى سلسلة من المحاضرات في جامعة أكسفورد ما بين عامي (1952-1954م)، كما ألقى مجموعة أخرى من المحاضرات في جامعة هارفارد عام 1955م، وقد جمعت المحاضرات الأخيرة في كتاب طبع بعد وفاته عام 1962م وعنوانه:"كيف نفعل الأشياء بالكلمات" أو "كيف ننجز الأفعال بالكلمات "How to do words with things".
تراجع أوستن عن فكرة تقسيم الجملة إلى خبرية وإنشائية، وما تبع ذلك من محاولة وضع المعايير للتمييز بينهما، وتعامل مع الجملة على أنها قول وعمل، وتشتمل على ثلاثة أنواع من الأفعال الكلامية تشكل كيانا واحدًا، وتؤدى في الوقت نفسه الذي ينطق فيه بالفعل الكلامي، ولا يمكن تجزئتها أو فصلها إلا من قبيل التيسير الإجرائي قصد الفهم والدراسة فقط، وهي:
1- الفعل القولي: ويشمل الفعل الصوتي والفعل التركيبي والفعل الدلالي.
2- الفعل الإنجازي: ويقصد به ما يؤديه الفعل اللفظي أو الصوتي من وظيفة في الاستعمال.
3- الفعل التأثيري: وهو ما يتركه الفعل الإنجازي من تأثير في السامع أو المخاطب سواء أكان التأثير تأثيرا جسديًّا أم فكريًّا.
وصنف أوستن الأعمال التي ننجزها من خلال اللغة إلى خمسة أصناف تدخل تحت الفعل الإنجازي، ولكنه لم يتردد في القول بأنه غير راضٍ عن هذا التصنيف، وأن هناك إمكانات لظهور تصنيفات أخرى، وأقسامه الخمسة هي:
1- الحكميات Verdictives: وهي التي تعبر عن حكم يصدره محلف، أو محكَّم، أو حكم، وليس من الضروري أن تكون الأحكام نهائية أو نافذة، فقد تكون تقديرية أو ظنية، مثل: يبرئ، يقدر، يعين.
2- الإنفاذيات Exercitives: التي تعبر عن اتخاذ قرار في صالح شيء أو شخص أو ضده، مثل: يأذن، يطرد، يحرم.
3- الوعديات Commissives: وهي التي تعبر عن تعهد المتكلم بفعل شيء أو إلزام نفسه به، مثل: أعد، أتعهد، أضمن.
4- السلوكيات Behabitives: وهي التي تعبر عن رد فعل لسلوك الآخرين، ومواقفهم، ومصائرهم، كالاعتذار والشكر والتعاطف.
5- التبيينيات Expositives: وهي التي تستخدم لتوضيح وجهة النظر أو بيان الرأي وذكر الحجة، مثل: الإثبات، الإنكار، المطابقة.
جهود سيرل:
سيرل فيلسوف أمريكي معاصر، متخصص في فلسفة اللغة وفلسفة الذهن. ولد في دنفر بولاية كولورادو عام 1932، ودرس الفلسفة في أوكسفورد، قام سيرل Searle بتعديل التقسيم الذي قدمه أوستن للأفعال الكلامية فجعله أربعة أقسام، هي:
1- الفعل النطقي Utterance act: وهو يشمل الجوانب الصوتية والنحوية والمعجمية، وهو يضم كل من الفعل الصوتي Phonetic act والتركيبي Phatic act عند أوستن.
2- الفعل القضوي propositional act: نسبة إلى القضية التي تقوم على المتحدث عنه أو المرجع reference، والمتحدث به أو الخبر predication، ويقابل الفعل الدلالي Rhetic act عند أوستن، وينقسم إلى قسمين هما:
أ- الفعل الإحالي reference act: يسهم في ربط الصلة بين طرفي الخطاب (المتكلم والسامع)، وقد تكون الإحالة إلى أشخاص أو أماكن أو أشياء أو غير ذلك، داخل النص أو خارجه.
ب- الفعل الحملي predication act: وهو الإسناد، أي أن نسند نسبة المحمول أو الحمل إلى الموضوع المحال عليه.
والفعلان معا -الإحالي والحملي- يشكلان معًا قضية واحدة proposition وهي المحتوى المشترك بينهما common content.
3- الفعل الإنجازي Illocutionary act: يعتبر سيرل الفعل الإنجازي بمثابة الوحدة الصغرى minimal unit للاتصال اللغوي ككل، ويدل على القوة الإنجازية دليل يسمى دليل القوة الإنجازية illocutionary force indicator يبين لنا نوع الفعل الإنجازي الذي يؤديه المتكلم بنطقه للجملة.
4- الفعل التأثيري Perlocutionary act: يتمثل فيما يمكن أن يحدثه الفعل الإنجازي في متلقيه من تأثير على قناعاته وأفكاره ومشاعره وعواطفه.
شروط الملاءمة عند سيرل:
طور سيرل شروط الملاءمة felicity conditions التي تحدث عنها أوستن، والتي إذا تحققت في الفعل الكلامي كان موفقًا، وجعلها أربعة شروط قد تزيد وقد تنقص حسب طبيعة الفعل، وهي:
1- شرط المحتوى القضوي :propositional content في فعل الوعد مثلا إذا كان دالاً على حدث في المستقبل يلزم به المتكلم نفسه، فهو فعل في المستقبل مطلوب من المخاطب .
2- الشرط التمهيدي :preparatory ويتحقق إذا كان المتكلم قادرًا على إنجاز الفعل (في الوعد)، والمتكلم على يقين من قدرة المخاطب على إنجاز الفعل (في الرجاء)، وليس من الواضح أن المخاطَب سينجز الفعل المطلوب في الظروف العادية بصورة تلقائية.
3- شرط الإخلاص :sincerity ويتحقق حين يكون المتكلم مخلصًا في أداء الفعل، كأن يريد حقًا من المخاطب إنجاز الفعل (في الرجاء).
4- الشرط الأساسي :essential ويتحقق حين يحاول المتكلم التأثير في السامع لينجز الفعل
تصنيف سيرل للأفعال الإنجازية:
أعاد سيرل النظر في تصنيف أوستن للأفعال الإنجازية فبين ما فيه من أوجه الضعف، وقدم تصنيفًا بديلاً للأفعال الإنجازية، وقد أقام تقسيمه على أسس منهجية ثلاثة ورد ذكرها في الأبعاد (المعايير) التي يختلف بها كل فعل إنجازي عن الآخر، ونص على أنها أهم هذه الأبعاد جميعًا، وأنه سيبني عليها تصنيفه للأفعال الإنجازية:
1- الغرض الإنجازي illocutionary point:"الغرض الإنجازي يعد جزءًا من القوة الإنجازية لكنه ليس إياها، فالغرض الإنجازي من الرجاء مثلاً هو نفسه الغرض الإنجازي للأمر، لكن القوة الإنجازية في كل منهما تختلف اختلافًا بينًا، فالقوة الإنجازية نتاج عناصر عديدة ليس الغرض الإنجازي إلا واحدًا منها".
2- اتجاه المطابقة direction of fit : مفهوم اتجاه المطابقة هو مفهوم مسؤولية المطابقة، أي: من الذي يفترض فيه أن يحقق المطابقة، وقد استخدم سيرل المثال الذي ضربه أنسكوم لتوضيح مفهوم اتجاه المطابقة، وهو على أربعة أقسام:
أ- اتجاه المطابقة من القول إلى العالم words- to- world direction of fit The: يتحقق النجاح في حالة تطابق المحتوى القضوي مع واقعة state of affairs مستقلة في العالم.
ب- اتجاه المطابقة من العالم إلى القول The world- to- words direction of fit: يتحقق النجاح في المطابقة بتغير العالم ليطابق المحتوى القضوي.
ج- اتجاه المطابقة المزدوج Double direction of fit: يتحقق النجاح في المطابقة بتغير العالم ليطابق المحتوى القضوي بتمثيل representing العالم على أنه تغير على هذا النحو.
د- اتجاه المطابقة الفارغ The null or empty direction of fit: لا تجود مشكلة في نجاح تحقق المطابقة بين المحتوى القضوي والعالم؛ لأنه عمومًا يقع القول مع افتراض حصول المطابقة مسبقًا.
3- شرط الإخلاص sincerity condition.
والأصناف الخمسة التي ذكرها سيرل للأفعال الإنجازية هي:
1- الإخباريات assertive:
أ- الغرض الإنجازي: هو التعهد للمستمع بحقيقة الخبر، فهي أن نقدم الخبر بوصفه تمثيلاً لحالة موجودة في العالم، ومن أمثلتها: الأحكام التقريرية والأوصاف الطبية والتصنيفات والتفسيرات.
ب- اتجاه المطابقة: من القول إلى العالم (words-to world)، فهي يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة.
ج- شرط الإخلاص: هو دائمًا "الاعتقاد"، وأبسط اختبار لتحديد هوية الإثبات هو أن نسأل ما إذا كان المنطوق صادقًا أو زائفًا .
2- التوجيهيات directives:
أ- الغرض الإنجازي: محاولة جعل المستمع يتصرف بطريقة تجعل من تصرفه متلائمًا مع المحتوى الخبري للتوجيه، ومن أمثلتها: الأوامر والنواهي والطلبات.
ب- اتجاه المطابقة: من العالم إلى القول (world-to-words)، وهي لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، ولكن يمكن أن تطاع أو تهمل، أو يخضع لها أو تستنكر ... إلخ.
ج- شرط الإخلاص: هو دائمًا "الرغبة" بأن يقوم المستمع بالفعل الموجه به.
3- الالتزاميات commissives:
أ- الغرض الإنجازي: تعهد من المتكلم لمباشرة مساق الفعل الممثل في المحتوى الخبري، ومن أمثلتها: المواعيد والنذور والرهون والعقود والضمانات والتهديد ولكنه ضد مصلحة المستمع ولا يعود عليه بالنفع.
ب- اتجاه المطابقة: من العالم إلى القول (world-to words)، وهي لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، ولكن يمكن أن يتم تنفذيها أو يحافظ عليها، أو يحنث بها.
ج- شرط الإخلاص: هو دائمًا "القصد"، فكل وعد أو تهديد مثلا هو تعبير عن قصد للقيام بشيء ما.
4- التعبيريات expressive:
أ- الغرض الإنجازي: التعبير عن شرط الصدق للفعل الكلامي، ومن أمثلتها: الاعتذارات والتشكرات والتهاني والترحيبات والتعزيات.
ب- اتجاه المطابقة: الاتجاه الفارغ؛ لأن حقيقة المحتوى الخبري يسلم بها فحسب، إذا قلت "أعتذر لضربك"،"أو تهانينا على فوزك بالجائزة" فأنا أسلم تسليمًا بأنني ضربتك، أو أنك فزت بالجائزة، ولذلك أفترض قبليًّا وجود اقتران بين المحتوى الخبري والواقع.
ج- شرط الإخلاص: يتغير مع تغير نمط التعبير، فالاعتذار صادق إذا كان المتكلم يشعر بالأسف فعلًا عما يعتذر عنه، والتهاني صادقة إذا كان المتكلم يشعر بالبهجة حقًا لما يهنئ المستمع عليه.
5- الإعلانيات declaratives:
أ- الغرض الإنجازي: إحداث تغيير في العالم بتمثيله وكأنه قد تغير، فتخلق الأفعال الأدائية وكذلك التصريحات الأخرى، حالة فقط من خلال تمثيله وكأنه قد تغير، أو بعبارة أخرى: إحداث تغيير في العالم، بحيث يطابق العالم مضمون القضية بمجرد الإنجاز الناجح لمضمون الفعل الكلامي، ومن أمثلتها:"لذلك أعلن اندلاع الحرب"، "أنت مطرود"، "أنا مستقيل".
ب- اتجاه المطابقة: قد يكون من القول إلى العالم أو من العالم إلى القول أي الاتجاه المزدوج.
ج- شرط الإخلاص: لا تحتاج إلى شرط إذ يكفي إنجازها بنجاح لتحقيق المطابقة .
في مرحلة تالية ميز سيرل بين ما أسماه الأفعال الكلامية المباشرة direct والأفعال الكلامية غير المباشرة indirect.
وقد استفاد جرايس من هذه الجهود في مبدأ التعاون والاستلزام الحواري، واستفاد منها أيضًا ديكرو في نظرية الحجاج في اللغة وما يعرف بالتداولية المدمجة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق