ما المقصود بمبدأ التعاون والاستلزام الحواري؟
- بول جرايس H.P.Grice فيلسوف من فلاسفة أكسفورد المتخصصين في دراسة اللغة الطبيعية natural language ألقى محاضراته في جامعة هارفارد عام 1967م، وقد طبعت أجزاء مختصرة من هذه المحاضرات عام 1975م في بحث له بعنوان:"المنطق والحوارLogic and Conversation"، وفيه بلور جرايس "مبدأ التعاون"، ويقصد به ذلك المبدأ الذي يرتكز عليه المرسِل للتعبير عن قصده، مع ضمانة قدرة المرسَل إليه على تأويله وفهمه، وصاغه على النحو التالي:"ليكن إسهامك في الحوار بالقدر الذي يتطلبه سياق الحوار، وبما يتوافق مع الغرض المتعارف عليه، أو الاتجاه الذي يجري فيه ذلك الحوار".
- إن من المفترض عادة أن تكون الجمل التي نستعملها جملاً تامة الفائدة، ومناسبة للمقام، وقد صار هذا جزءًا مما بات يعرف بمبدأ التعاون cooperative principle اللازم للمحادثة، وحين يبدو الكلام غير تام الفائدة، أو غير مناسب للمقام، فإن السامع أو القارئ يفترض حينئذ أن عليه أن يستنبط ما يردُّ به هذا الكلام إلى حال "الإفادة" و"المناسبة".
وقد تفرّع عن هذا المبدأ عدد من المبادئ الرئيسة، وهي:
1- مبدأ الكم The Maxim of Quantity (قاعدتا كم الخبر):
أ- لتكن إفادتك المخاطب على قدر حاجته.
ب- لا تجعل إفادتك تتعدى القدر المطلوب
وينص هذا المبدأ على أن عملية التخاطب يجب أن تكون مفيدة، ويجب أن يكون الخطاب دالا على المطلوب، أي لا يفيد أكثر مما ينبغي، ويوافق هذا المبدأ، مبدأ الاقتصاد اللغوي الذي أثبته اللغويون المعاصرون وهو يقول: إن الإنسان لا يبذل من الجهود العلاجية أو الذهنية في إعمال آلة الخطاب إلا بقدر ما يستطيع إفادة المخاطَب، وبعبارة أخرى: فإن هم المتكلم أن يبلغ أكبر عدد ممكن من الفوائد بأقل عدد ممكن من الجهود.
وقد يتجاوز عن الكمية عند الاستخفاف Flouting بها، أو استغلالها Expltation، للتوصيل إلى استدلالات متتابعة إلى المقتضى الذي يقتضي إبلاغه، والتجاوز عن مبدأ الكم يحصل عندما يأتي النص بشكل غير مباشر عن طريق الكناية، والتلويح، والرمز، والاستعارة.
2- مبدأ الكيف The Maxim of Quality (قاعدتا كيف الخبر):
أ- لا تقل ما تعلم كذبه.
ب- لا تقل ما ليست لك عليه بينة.
وينص على أن تتصف مساهمة المتخاطبين بالصحة، ويهتم فيه بجانب الصدق طرحًا من المرسِل وإجابة من المستقبل؛ فالأول في مقام يفرض عليه الإيمان بصدق قوله ليقابله صدق الإجابة، ويكون الطرفان على نحو من التفاهم والانسجام.
ويتجاوز مبدأ الكيف إما للتهكم Satireأو للمزاح.
3- مبدأ المناسبة أو الترابط The Maxim of Relevance (قاعدة علاقة الخبر بمقتضى الحال):
- ليناسب مقالك مقامك.
ويؤكد هذا المبدأ أن يكون الكلام مناسبًا لموضوع الحوار وملائمًا له، أي: يكون الكلام ذا دلالات مباشرة وصريحة، وغرضه أن تحقق أجزاء الخطاب الواحد توافقًا دلاليًّا يحملها على عدم التعارض؛ فلا يكون الخطاب خطابًا، إذا كان أوله لا يشبه آخره، تنافرًا وتعارضًا.
وقد يتجاوز عنه في الكلام غير المباشر بغرض التأدب مثلا.
4- مبدأ النوع أو الطريقة The Maxim of Manner (قواعد جهة الخبر):
أ- لتحترز من الالتباس.
ب- لتحترز من الإجمال.
ج- لتتكلم بإيجاز.
د- لترتب كلامك.
وإذا انتهك المتكلم مبدأ من مبادئ الحوار أدرك المخاطَب اليقظ ذلك، وسعى إلى الوصول إلى هدف المتكلم من هذا الانتهاك، كما أن انتهاك مبادئ الحوار لا يقتصر على التعبير الحقيقي بل يشمل المجازي أيضًا، وهو متحقق أيضًا في كل مفارقة irony يراد بها عكس ما يقال، أو غير ما يتوقع.
- يقول طه عبد الرحمن :"لقد أريد بهذه القواعد التخاطبية أن تنزل منزلة الضوابط التي تضمن لكل مخاطبة إفادة تبلغ الغاية في الوضوح، بحيث تكون المعاني التي يتناقلها المتكلم والمخاطب معاني صريحة وحقيقية؛ إلا أن المتخاطبين قد يخالفان بعض هذه القواعد، ولو أنهما يدومان على حفظ مبدأ التعاون؛ فإذا وقعت هذه المخالفة، فإن الإفادة في المخاطبة تنتقل من ظاهرها الصريح والحقيقي إلى وجه غير صريح وغير حقيقي، فتكون المعاني المتناقلة بين المتخاطبين معاني ضمنية ومجازية، كما إذا قال القائل:"لقد اشتد الحر بنا في هذا المكان"، وهو يقصد أن يبادر أحد المستمعين إلى فتح النافذة؛ فهذا القول في ظاهره خبر يخل بقاعدة الكم، إذ يخبرنا بما نحن على علم به، لكنه في باطنه طلب نهتدي إليه بافتراض أن القائل يأخذ بمبدأ التعاون".
++ الاستلزام الحواري:
لقد كان مفهوم جرايس للاستلزام الحواري conversational implicature أهم إسهاماته في تطور التداولية، وتكمن أهميته في أنه يشكل نقطة تحول واضحة عن أنواع الاستدلالات الأخرى المسموحة في دراسة المنطق المبنية على شروط الحقيقة، والاستلزام الحواري لا ينجم إلا إذا تم خرق أحد المبادئ الفرعية الأربعة السابق ذكرها مع الاحتفاظ بأصل مبدأ التعاون، وهنالك بعض الشروط التي يجب أن تتوفر في جملة ما حتى تستلزم معنى مقامي مغاير لمعناها الحرفي وهي:
- يتوجب على المشاركين في الحديث أن يحترموا مبدأ التعاون.
- يجب أن يفترض المتكلم أن المستمع يدرك المعنى المستلزم.
- يجب أن يكون المستمع قادرًا على الاستنتاج انطلاقًا من الافتراض القائم على مسلمة الملاءمة.
- على المشاركين في الحديث أن يحترموا السياق اللغوي وغير اللغوي في الخطاب.
- يجب على المتكلم أن يحترم المعنى العرفي وأن يعرف العبارات الإحالية.
++ أمثلة على الاستلزام الحواري:
في كل مثال من الأمثلة التالية تم تجاوز أحد المبادئ التي ذكرها جرايس، مما نتج عنه استلزام حواريّ يفهمه المخاطب اعتمادًا على بقاء مبدأ التعاون بين المتكلم والمستمع.
+ انتهاك مبدأ الكمية :
المثال الأول: في وقت التسجيل، كان كل أعضاء فريق البث من الإذاعة البريطانية.
الاستلزام الحواري: واحد أو أكثر منهم ليس عضوًا في فريق البث البريطاني الآن.
المثال الثاني: في حوار يجري بين الأم وولدها:
- تقول الأم: هل اغتسلت ووضعت ثيابك في الغسالة؟
- يجيب الابن: اغتسلت.
في هذا الحوار انتهاك لمبدأ الكم؛ لأن الأم سألته عن أمرين فأجاب عن واحد وسكت عن الثاني، أي أن إجابته أقل من المطلوب، ويستلزم هذا أن تفهم الأم أنه لم يضع ثيابه في الغسالة، وأنه لم يرد أن يجيب بنعم حتى لا تشمل الإجابة شيئًا لم يقم به، ولم يرد أن يواجهها بتقاعسه عن وضع ثيابه في الغسالة.
+ انتهاك مبدأ الكيفية :
المثال الأول: حوار بين صحفي وناطق رسمي:
- الصحفي: هل لعبت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أي دور في مغادرة دوفاليار؟ هل شجعته فعلًا، على سبيل المثال على المغادرة؟
- الناطق الرسمي: لن أحاول إبعادك عن ذلك الاستنتاج.
الاستلزام الحواري: لقد لعبت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية دورًا ما، على الرغم من أن الناطق الرسمي ليس في موقع يسمح له بالالتزام بمثل هذه النتيجة.
المثال الثاني: في حوار بين التلميذ والأستاذ:
- التلميذ: طهران في تركيا، أليس هذا صحيحًا يا أستاذ؟
- الأستاذ: طبعًا، ولندن في أمريكا!
في هذا الحوار انتهك الأستاذ مبدأ الكيف الذي يقتضي ألا يقول إلا ما يعتقد صوابه، وألا يقول ما لا دليل عليه، وقد انتهكه الأستاذ عمدًا ليظهر للتلميذ أن إجابته غير صحيحة، ويؤنبه على جهله بشيء كهذا، والتلميذ قادر على الوصول إلى مراد الأستاذ؛ لأنه يعلم أن لندن ليست في أمريكا، وذلك يستلزم أن الأستاذ يقصد بقوله شيئًا غير ما تقوله كلماته، وهو أن قول التلميذ غير صحيح.
+ انتهاك مبدأ المناسبة أو الترابط:
المثال الأول: حوار بين الضيفة وباسل:
- الضيفة: هل وصل الدكتور؟
- باسل: ماذا تفضلين أن تشربي؟
- الضيفة: يا باسل، هل وصل الدكتور؟
- باسل: عصير اللوز.
الاستلزام الحواري: لا يرغب باسل في الإجابة عن السؤال.
المثال الثاني: في حوار بين رجلين:
- الرجل الأول: أين زيد؟
- الرجل الثاني: ثمة سيارة صفراء تقف أمام منزل عمرو.
وما قاله الرجل الثاني بمعناه الحرفي ليس إجابة عن السؤال، فهو ينتهك مبدأ العلاقة المناسبة بالموضوع، ولكن السائل في ضوء المبادئ الأخرى للتعاون يسأل نفسه ما العلاقة الممكنة بين وقوف سيارة صفراء أمام منزل عمرو وسؤالي عن مكان زيد؟ ثم يصل إلى أن المراد بهذا القول إبلاغه رسالة مؤداها أنه إذا كانت لزيد سيارة صفراء فلعله عند عمرو.
+ انتهاك مبدأ النوعية أو الطريقة:
المثال الأول: الأخوات الكبار هن سرطان العشب في مروج الحياة.
الاستلزام الحواري: الأخوات الكبار لسن لطيفات ولديهن نزعة للسيطرة.
المثال الثاني: في حوار بين رجلين:
- الرجل الأول: ماذا تريد؟
- الرجل الثاني: قم، واتجه إلى الباب، وضع المفتاح في القفل، ثم أدره ناحية اليسار ثلاث مرات، ثم ادفع الباب برفق.
وواضح مما قاله الرجل الثاني انتهاكًا لمبدأ من مبادئ الطريقة وهو "أوجز" إذ كان يكفي أن يقال: افتح الباب، وإذا نظرنا إلى هذا القول في ضوء تحقق مبادئ الحوار الأخرى كان لابد أن المتكلم يحاول به وجهًا غير ما يظهر، قد يكون مؤاخذته على ما يتميز به من بطء وتكاسل.
وبشكل مشابه يمكن شرح المعاني الضمنية في حالات السخرية والمعاني المجازية من خلال الرجوع إلى مبدأ التعاون.
- ويفرق جرايس بين نوعين من الاستلزام:
أ- الاستلزام العرفي أو الاصطلاحي conventional implicature: وهو قائم على ما تعارف عليه أصحاب اللغة من استلزام بعض الألفاظ دلالات بعينها لا تنفك عنها مهما اختلفت بها السياقات وتغيرت التراكيب، ومن ذلك مثلا في الإنجليزية (but) ونظيرتها في اللغة العربية (لكن) واللتان تستلزمان أن يكون ما بعدهما مخالفًا لما يتوقعه السامع.
ب- الاستلزام الحواري conversational implicature: متغير دائمًا بتغير السياقات التي يرد فيها، ولهذا النوع بعض الخواص منها:
1- الاستلزام الحواري يمكن إلغاؤه defeasible، ويكون ذلك عادة بإضافة قول يسد الطريق أمام الاستلزام أو يحول دونه.
2- الاستلزام الحواري لا يقبل الانفصال non-detachable عن المحتوى الدلالي، ويقصد جرايس بذلك أن الاستلزام الحواري متصل بالمعنى الدلالي لما يقال لا بالصيغة اللغوية التي قيل بها، فلا ينقطع مع استبدال مفردات أو عبارات بأخرى ترادفها.
3- الاستلزام الحواري متغير، والمقصود بالتغير أن التعبير الواحد يمكن أن يؤدي إلى استلزامات مختلفة في سياقات مختلفة.
4- الاستلزام الحواري يمكن تقديره calculability والمراد به أن المخاطب يقوم بخطوات محسوبة يتجه بها خطوة خطوة إلى الوصول إلى ما يستلزمه الكلام.
لكن التمييز بين النوعين لا يمكن الحفاظ عليه دائمًا، حيث يمكن للألفاظ المستخدمة في صيغ الطلب المؤدب كما في: من فضلك، هل يمكنك أن ..؟ التي تحسب قوتها أولاً بواسطة الاستلزام الحواري فقط، يمكن أن تصبح عبر الاستخدام المتكرر في نطاق الاستلزام الاصطلاحي.
- ويمكن أن نلخص رؤية جرايس للدلالة اللغوية للعبارة في أنها تنقسم عنده إلى قسمين:
الأول- المعاني الصريحة: هي المعاني المستخلصة من الصيغة الحرفية للجملة ذاتها (معاني مباشرة)، ويندرج تحتها :
1- المحتوى القضوي: يتمثل في معاني مفردات الجملة مضمومًا بعضها إلى بعض.
2- القوة الإنجازية الحرفية: المتمثلة في القوة الإنجازية المتضمنة في الجملة والمؤشر لها بصيغة الاستفهام، الأمر، النهي.
الثاني- المعاني الضمنية: هي المعاني التي تفهم انطلاقًا من السياق الذي ترد فيه (المعنى المستلزم)، فالسياق هو الذي يقوم بتحديد دلالاتها، ويندرج تحتها:
1- المعاني العرفية: هي المعاني المرتبطة بالجملة، والتي لا تتغير حتى ولو تغير سياق الجملة ويواكبها نوعان من المعاني: الاقتضاء و الاستلزام المنطقي.
2- معاني حوارية أو سياقية: هي المعاني التي تتولد طبقًا للسياقات التي تنجز فيها الجملة ويواكبها نوعان من المعاني هما:
أ- الاستلزام الحواري الخاص: وهو عبارة عن المعاني الناتجة عن سياق خاص.
ب- الاستلزام الحواري العام: وهو عبارة عن المعاني التي لم تعد مرتبطة بطبقة مقامية معينة.
ويسمي جرايس الانتقال من المعنى الخاص إلى المعنى العام بــــ"تحجر القوة الإنجازية المستلزمة".